كيف يُصنع الشبّيح؟ تفكيك آليات التحول النفسي والاجتماعي تحت الأنظمة السلطوية
في كل منظومة سلطوية، تتكرّر ظاهرة تبدو صادمة: كيف يتحول جارٌ أو صديقٌ أو حتى أخٌ، في غضون أيام، إلى أداة عنف وقمع، بل إلى شخص يقطع علاقته بك، يهينك، وربما يشارك في اعتقالك أو قتلك؟ هذا التحول ليس صدفة، ولا يقتصر على سياق واحد مثل الحالة السورية؛ بل هو آلية متكررة في كل الأنظمة الشمولية التي نجحت في إعادة تشكيل البنية النفسية والاجتماعية للأفراد، بحيث يصبح الولاء المطلق للسلطة بديلاً عن الروابط الإنسانية الطبيعية.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل هذه الظاهرة من منظور نفسي واجتماعي، وتوضيح كيف يمكن بسهولة إعادة إنتاج "الشبيح" في ظل أي نظام جديد، إذا توفرت الشروط البنيوية ذاتها.
أولًا: من هو الشبيح؟ ولماذا يشكّل ظاهرة متكررة؟
مصطلح "شبيحة" ظهر في سوريا ليصف ميليشيات موالية للنظام، تمارس العنف لحماية السلطة. لكن جوهر الظاهرة ليس مرتبطًا بمكان أو زمان محدد؛ إنه نتاج البنية السلطوية التي توظف الخوف، والولاء، والعنف، لتفكيك النسيج الاجتماعي وتحويل الأفراد إلى أدوات في خدمة القمع.
ثانيًا: التحليل النفسي – آليات انهيار الضمير
splitting الانقسام النفسي وإلغاء التعقيد
في أوقات الأزمات، يلجأ الفرد إلى آلية دفاعية بدائية: تصنيف العالم إلى أبيض وأسود، "معنا أو ضدنا". هذه الآلية، التي تحدث عنها فرويد وتوسع فيها لاحقًا علماء النفس التحليلي، تُلغي المساحات الرمادية، وتحول الآخر المختلف إلى تهديد وجودي.
الخوف الوجودي كحافز للتحول
الخوف، كما توضح هانا أرندت في تحليلها للأنظمة الشمولية، ليس مجرد شعور؛ بل أداة سياسية. عندما يشعر الفرد أن حياته أو مكانته مهددة، يصبح مستعدًا لتبني أي سردية توفر له الأمان—even لو كانت تتطلب سحق أقرب الناس إليه.
التبرير الأخلاقي (Moral Disengagement)
ألبرت باندورا يصف كيف يمكن للأفراد تعليق المبادئ الأخلاقية عبر آليات مثل:
١.إعادة توصيف الفعل العنيف (من قتل إلى "حماية الوطن")
٢.إلقاء اللوم على الضحية
نزع الإنسانية عن الآخر (Dehumanization).٣
هذه الآليات تتيح للفرد ارتكاب العنف بلا شعور بالذنب
التشييء وانهيار التعاطف
عندما يتحول المعارض إلى "خائن" أو "إرهابي"، لا يعود إنسانًا كاملًا، بل شيئًا يجب التخلص منه. هذه الخطوة ضرورية لتحرير الفرد من قيود الضمير.
Mural from the Lebanese Civil War
ثالثًا: التحليل الاجتماعي – كيف تصنع السلطة القطيع؟
ديناميكيات القطيع (Groupthink)
المجموعات الموالية للنظام تخلق بيئة مغلقة، حيث الولاء للجماعة يصبح شرطًا للبقاء. أي شك داخلي يقود إلى العزلة وربما الموت.
الوهم بالمكانة والسلطة
حتى لو لم يحصل الفرد على مكاسب مادية، فإن مجرد الانتماء إلى الجهة المسيطرة يخلق إحساسًا بالقوة والحصانة، ويمنحه شعورًا رمزيًا بالتفوق على الآخرين. هذا الإحساس وحده يكفي أحيانًا لكسر الضمير وتبرير العنف.
تدمير الروابط الأفقية
الأنظمة السلطوية تعمل على تفكيك الروابط الاجتماعية الطبيعية (عائلة، صداقة، جيرة) لتبقى العلاقة الرأسية مع السلطة هي الرابط الوحيد الآمن. هذه الاستراتيجية تجعل أي تمرد على السلطة معادلاً لفقدان كل أشكال الأمان الاجتماعي.
رابعًا: لماذا إعادة إنتاج الشبيح سهلة في أي نظام جديد؟
لأن هذه الظاهرة ليست شخصية، بل بنيوية. طالما وُجد:
خوف جماعي
سلطة تملك أدوات العنف والخطاب الاستقطابي
سردية تقسّم المجتمع إلى خونة وأبطال
فسنرى دائمًا "شبيحة جدد" حتى لو تغيرت الأسماء من "شبيح" إلى "حامي الثورة" أو "جندي النظام الجديد".
الخاتمة
تفكيك هذه الظاهرة يتطلب أكثر من إسقاط النظام القديم؛ يتطلب تفكيك ثقافة الخوف، وبناء مؤسسات تحمي الفرد لا السلطة، وغرس قيم النقد والمساءلة بدلاً من الولاء الأعمى. بدون ذلك، سنعيد إنتاج دائرة العنف باسم أي نظام جديد.
المراجع النظرية المقترحة
Bandura, A. (1999). Moral disengagement in the perpetration of inhumanities. Personality and Social Psychology Review, 3(3), 193-209.
Arendt, H. (1963). Eichmann in Jerusalem: A Report on the Banality of Evil. Viking Press.
Adorno, T. W., Frenkel-Brunswik, E., Levinson, D. J., & Sanford, R. N. (1950). The Authoritarian Personality. Harper.
Milgram, S. (1974). Obedience to Authority. Harper & Row.
Zimbardo, P. (2007). The Lucifer Effect: Understanding How Good People Turn Evil. Random House.